سنغافورة تركز على العلوم الإنسانية: الدولارات لا معنى لها
ستارة الحياة
يبدو أن هناك ثورة ثقافية في سنغافورة. وإذا كانت النخب فيها دافعت في السابق عن أولوية العلوم والتكنولوجيا في تشكيل الوعي الوطني، فإن التحركات الجديدة تشير إلى أنها تضع عينها الآن على العلوم الإنسانية.
إلا أنه من المبكر لأوانه الاحتفاء بهذه الاستراتيجية الجديدة على أنها نقلة نوعية، فهذه الجهود لا تزال مشبّعة في فلسفة الواقعية الاقتصادية، التي تتبعها هذه الدولة الصغيرة، أو فكرة أن النمو الاقتصادي هو الورقة الرابحة.
وهناك مثالان مفيدان هنا. الأول هو كلية العلوم الإنسانية التي تم الترويج لها كثيرا والتي تم الإعلان عنها في أيلول (سبتمبر). ومن المقرر أن تبدأ العمل بحلول عام 2013، وستشهد شراكة جامعة سنغافورة الوطنية مع جامعة ييل الأمريكية لإنتاج الدفعة التالية من القادة في سنغافورة. وعلى الرغم من ميلها للعلوم الإنسانية، فإن الهدف الشامل للكلية هو إنعاش الاقتصاد. وهو أمر يتضح بوضوح حين يفكر المرء في نوع المقررات الجامعية المتصورة ـــ العلوم الإنسانية مع القانون أو الطب. واستخدام كلمة ''مع'' يشي بمسحة الشك في قيمة شهادة العلوم الإنسانية الصرفة، التي لوحدها تجمع موضوعات عن العلوم الإنسانية مثل الفلسفة مع موضوعات لا تتعلق بالعلوم الإنسانية مثل الرياضيات والعلوم. باختصار، الهدف من الكلية إنتاج تكنوقراطيين مثقفين أكثر من فنانين.
ويمكن للمرء أن يشير أيضا إلى اللجنة التوجيهية للمراجعة الاستراتيجية للفنون والثقافة ـــ التي تشكلت في أيلول (سبتمبر) أيضا ـــ والتي تهدف إلى ترسيخ تقدير الفنون في السنغافوريين. ومن المقرر أن تنشر اللجنة التي تتألف من 12 عضواً توصياتها في منتصف عام 2011. وهنا أيضا، توحي بعض أهداف اللجنة بميل نحو النمو الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، يهدف إنشاء الأماكن الثقافية إلى الحصول على دولارات السياح، في حين تهدف تنمية المواهب الفنية إلى ضمان أن ''تستفيد'' القوى العاملة لدينا، على حد تعبير البيان الصحافي، ''من الفرص الاقتصادية الجديدة''.
وسيتم تحقيق السياسة الثقافية لسنغافورة على نحو أفضل إذا فصلت النخب فيها الواقعية الاقتصادية عن العلوم الإنسانية. ولعل أكبر شرك لعدم القيام بذلك هو أنه قد ينتهي الأمر بسنغافورة بتشكيل العلوم الإنسانية إلى مجرد ''صناعة'' أخرى. والخطر من تحويل العلوم الإنسانية إلى سلعة هو أنها قد تخنق حس المواطنة لصالح الاقتصاد.
وتشير المواطنة هنا إلى شعب ناقد أفراده قادرون على تصور مجتمع أفضل ما وراء المكاسب المادية. وهل هناك طريقة أفضل من العلوم الإنسانية لنقل خاصية النقد هذه؟ هذا هو الإجماع الذي ظهر في المملكة المتحدة من النقاش العام حول قيمة العلوم الإنسانية، في الوقت الذي شرعت فيه حكومة الائتلاف الحالية في سلسلة من تخفيضات الإنفاق على التعليم. وتصف المؤرخة جوانا بيرك على أفضل نحو في صحيفة ''الجارديان'': ''تساعد العلوم الإنسانية على تطوير الاتجاه النقدي المتشكك نحو العالم. وترتبط بكشف زيف المنطق في أوقاتها. وتتعلق أساسا بالتحليل النقدي للأمور المتفق عليها، والمقاومة لما يجعل الحياة غير عادلة وبشعة''. ولتطبيق هذا الموقف في سياق سنغافورة، علق أحد كبار موظفي الخدمة المدنية، مدير معهد دراسات السياسة أونج كينج يونج، في مقابلة مع صحيفة TODAY عام 2006 قائلاً: إن الانتقادات تساعد على تشكيل سياسات أفضل. وهذا مكسب ضمني ولكن نوعي لسياسة ثقافية تفصل الواقعية الاقتصادية عن العلوم الإنسانية.
والميزة الأخرى هي أثرها الإيجابي في شباب سنغافورة. وفي صحيفة ''الجارديان'' أيضا، قالت كيت سوبر أستاذة الفلسفة إن العلوم الإنسانية تعزز الفكرة القائلة إنه ليس من الضروري أن تصاغ الحياة الجيدة في ''الوجود حيث التوتر مرتفع والوقت قليل والمدفوع بالعمل والذي يشجعه المجتمع الاستهلاكي بميزانياته الضخمة للدعاية''. وفي الواقع، ستساعد الثقافة الموالية للعلوم الإنسانية والمفصولة عن الأهداف الاقتصادية الشباب على رؤية سنغافورة باعتبارها أكثر من مجرد مكان لكسب المال. وتخيل سنغافورة كمكان تكون فيه المكاسب غير المادية مهمة أيضا قد يتحدى الشعور بخيبة الأمل التي أثيرت من قبل أشخاص مثل ليم زي روي، وهو طالب في جامعة نانيانج التكنولوجية قال للوزير غوه غوك تونج في حوار وزاري في تشرين الأول (أكتوبر): ''لم أعد أعرف ما الذي أقاتل لأجله''.
وقد تساعد هذه الاستراتيجية الإنسانية غير المادية في غرس شعور بالانتماء في أمة اعتاد أفرادها على الكماليات التي وفرها الاقتصاد الممتاز، خاصة في أوقات الأزمات حيث قد لا يلبي الوعد بالسلع الاقتصادية توقعاتهم. وسيشكل الخطاب المتعلق بالهوية القومية للقيم المجتمعية ـــ وهو أمر يقول ليم إنه غير موجود في سنغافورة ـــ ويجعلهم أقل فتورا تجاه السياسة، وهو مصدر قلق تم تسليط الضوء عليه من قبل قادة سنغافورة.
لكن لم يضع كل شيء بعد. ففي تحولها إلى العلوم الإنسانية، تتخذ سنغافورة بعض الخطوات الصحيحة أيضا. وتشمل تلك الخطوات شهادة التاريخ والفلسفة الجديدة في جامعة نانيانج التكنولوجية، وكذلك مقرر الدراسات الدينية في جامعة سنغافورة الوطنية لبرنامج الباحثين الجامعيين، بالتعاون مع منظمة فيث لتوني بلير. ولكن لا ينبغي أن تتوقف سنغافورة عند هذا الحد. أحد الأفكار هو أن تحذو حذو فرنسا ـــ الدولة المعروفة بمفكريها النقديين ـــ وتجعل الفلسفة مادة إجبارية في مؤسسات التعليم العالي مثل معاهد العلوم التطبيقية والكليات المتوسطة والدراسات التحضيرية للجامعات. وهناك فكرة أخرى وهي إنشاء ما يعادل A* Star ومنظمة الأبحاث الوطنية، وهي مؤسسات تركز على تعزيز البحوث العلمية، لقطاع الفنون والعلوم الإنسانية. ويمكن لسنغافورة مثلا محاكاة مجلس بحوث العلوم الإنسانية والفنون في المملكة المتحدة، وهو هيئة تمويلية تركز على القطاع غير العلمي.
إن الثقافة الداعمة للعلوم الإنسانية غير المدفوعة اقتصاديا ستجعل سنغافورة مدينة عالمية شاملة بحق. وفقط حين تتمكن سنغافورة، الدولة المدينة المليئة بالشركات، من تكثيف سعيها لتحقيق التفوق الاقتصادي مع تعزيز الإحساس بالروح، سيتمكن مواطنوها والعالم الأوسع من رؤية المدينة الدولة كمكان مرغوب للعيش، ليس فقط لتفوقها الاقتصادي، بل أيضا لنوعية الحياة الثقافية. ولتحقيق هذه الغاية، فإن الخطوة الحاسمة هي أن تعترف النخب فيها أنه مع تحول سنغافورة نحو العلوم الإنسانية، الدولارات لا معنى لها.
خاص بـ''الاقتصادية''
Categories: